قرات هذا الصباح، فيما يشبه الصدفة، وان لم يكن الامر كذلك تماما، لشخصين يسمهما القرب والبعد. يقربهما انهما يلتقيان في الاحساس الداهم بقضايا الوطن بل وأدق من ذلك إنهما يشربان من الشغب المستمر والباعث على القلق المصاحب للوجود ....وهما بعيدان لانهما وان كانا يعرفان أن وقع الحوافر على بعضها رهين بتوفر نفس الآليات.فإنهما بالتاكيد لم يفكرا في بعضهما حينما كتبا ما كتباه.
كتبت الدكتورةاسماء عبد الناظر عبد الناظر على حائطها صرخة عنونتها ب: "نقيق الضفاضع" واكيد ان الضفاضع تنق، وهي تستوطن البرك الموحلة والمياه الضحلة وتستشعر سقوط المطر ولو كان مجرد قطرات فيزداد نقيقها، علميا لحاجتها الى إناثها لان الذكور وحدها تنق. ولكن ما يهمنا نحن في العملية هو هذا التظافر المزعج الذي لا يتوقف الا إذا شعر الضفدع بخطر داهم كالخفافيش ،ساعتها فقط يتوقف عن النقيق ..إذن هل سنحتاج دوما الى أسراب الوطاويط الغريبة لننعم بهدوء البرك؟!علما ان اخطرالضفادع ليس الذي يشق سمعك نقيقه فقط بل هو ضفدع الكوكوي السام إذ تكفي نقطة من سمه لقتل 100 الف إنسان..وكم من المبدعين وكم من الطاقات قتلها سم الكوكوي اللعين المتمترس رغم صغره ورخاوة جسم، خلف الولاءات والاضرحة التي تمشي باصحابها الاحياء.. وهنا اعرج على الشاعر العراقي شاكر لعيبي صاحب قصيدة الناس ويا لها من قصيدة!! والذي كتب ايضا مقالة عنونها ب"صياح الديكة"..هذا الشاعر الناقد الفنان المتعدد الطاقات الذي يبدو انه قضى وقتا طويلا في معارك كثيرا ما دخلها غير عابئ بالنتائج.. لم يسلط الضوء على الديكة المتصايحين، بل وايضا عن الجهات الداعمة لهذه الصراعات والمستفيدة منها والمؤججة لها، والتي تخرج في سلوكاتها من جبة القدامة وتتشكل من موت القبيلة والجماعة والعائلة وهلم كسرا.
هل عانى كل من الشاعرلعيبي والدكتورة اسماء من غطرسة القبح واستشراء محاربة الابداع الحر في بلدان تعاني اصلا من تقلص الحريات ؟؟اكيد لا احد يزعم العكس، وربما حصل لهما ذلك في مناسبات عدة. ولكن دعوني هنا استحضر قول الاستاذ لحسن كجيدي في المسائية العربية في مقال بعنوان"دع الضفادع تنق ـ بين الذات والاستبداد يقول ـ وإن في سياق سياسي ـ :" فالتحرير و التحرر هو اشتغال على الذات والفكر والواقع لمغادرة حال العجز واليقظة من السبات! بإعادة طرح الأسئلة وصوغ المشكلات أو فحص المقولات! وذلك لتجاوز الأسئلة غير المنتجة أو فضح الثنائيات المزيفة والخادعة! أو تفكيك المقولات الضيقة والأجهزة القاصرة. وهكذا فالتحرر هو امتلاك لإمكانات وجودية جديدة! تتيح للفرد إعادة ترتيب علاقات القوة بينه وبين الآخرين " ولا اظن الصدف وارفة الكرم الى حد الاسراف بل هي العناية التي تتحكم فيها حكمة اقوى من قدرتنا على الفهم؛ ذلك انني وفي ذات اليوم اعدت قراءة ملخص اللقاء الذي اجراه الشاعر الفذ ياسين عدنان بعد عودة برنامج مشارف مع السوسيولوج ادريس بنسعيد وقد كان اللقاء حول تجربة 20 فبراير..وفيه تستوقفني نقطتان اساسيتان هنا :
1ـ " ان انجع طريقة للتعامل مع دينامية 20 فبرايرهو تقديم ما سماه الباحث بالعربون السياسي"ويريد بهذا إقدام الدولة والطبقة السياسية على سلسلة من الاجراءات السياسية من اجل رجة سياسية وسوسيولوجية، تنتهي الى التصالح بين الدولة والمجتمع.
وانا اتساءل عن دور المثقف، في ظل الانحسار الثقافي بل والبلبلة التي عرفتها المؤسسة الثقافية منذ سقوط يغداد ،هذه المرة ليس على يد هولاكو، ولكن على يد من جرى كثير من المثقفين الذين كانوا الى عهد قريب تقدميين بامتياز،جروا لتقبيلها او على الاقل للتهليل بقدريتها التي لا ترد باعتبار ان الحداثة تتطلب محاربة كل القدامة التي تبقى ذات معنى هولامي ، فتحوا جيوبه ليضم كل ما لا يناسب تاويلاتهم واجتهاداتهم القائمة على الانتقائية والتعسف الفكريين ، كالقول مثلا انه من غير المجدي أن انظر إلى الآخر فأرى فيه شقائي وشقوتي في حين انه مكمل لوجودي بل وضامن لاستمراره في مقابل ما يتهدد هذا الوجود..مما اترك للآخر عناية تحديده ومحاربته لا يهم بأي ثمن ولا باية كلفة نفسية وثقافية ..وقد كان من هؤلاء من يقول لا يمكن ابدا نفي التناقض كليا.
في حين عاد ت فئة اخرى من المثقفين الى قلا عها محتمية بهويات أعلنت الى عهد قريب إفلاسها الكلي ،وهي اما هوية سلفية بعمامة شرقية أو هوية سلفية بقبعة غربية..ومن صلف هؤلاء انهم خرجوا الى الشوارع للركوب على الموجة كعادتهم.وقد يكون من المحزن للعاطفيين منا ان نرى الشعارات و الصور التي حملها هؤلاء كصور شيكيفارا وشعار الاتحاد السوفياتي،او هتافهم في سرهم او جهرهم باسماء الاولياء الذين لم تتحقق ابدا كراماتهم..متخارجين كل التخارج مع شباب تشكل وعية كنبات بري انطلاقا من حاجاته اليومية ..بعيدا عن الاحزاب والسياسة،ذلك ان الطبيعة تخشى الفراغ وهو امر لم يفكر فيه لا اصحاب اليمين ولا اصحاب اليسار حينما تركوا دارهم تفلس..مساهمين بقدر كبير في سلب الشباب بطاقة هويتهم الحقيقية والتي هي ليس ادارية فقط بل احساس فعلي بالانتماء والتجدر.فراح هؤلاء يبحثون عن هويات افتراضية عادوا بها ومنها الى الواقع.
اما الفئة الثا لثة فهي فئة المثقف الموغل في انسحاقه والذى راح يبحث في شظايا ما امضى العمر في تربيبه ،راح يبحث عن ما يؤنس به وحشته من ضروب الرفه السمج، بعيدا عن الانشغال باسئلة جادة ، مشهرا عذرا اقبح من ضياع وهو ضرورة احياء مكونات الهوية كان الذي مات يحيى أو كأن لهم معجزة موسى، مع فرق ان بقرتهم الدلول التي ذبحوها ما هي لا شرقية ولا غربية وانما هي تدر عليهم مناسبات ياكلون فيها ويشربون ..وللقارئ ان يتصفح عناوين سواد الابحاث الجامعية في الادب بالخصوص،وللقارئ ايضا ان يجيل بصره في حوارات الفضائيات واحتراق المثقف في حمأة المهرجانات..
لقد كان من المفروض ان تشكل ساحة الفعل المدني مجالا خصبا لتبلور رؤى جديدة وتصحيح مسارات معاقة..وذلك عن طريق ملامسة الواقع والاندماج في المجتمع وسيرورته والتعرف على ما يعتمل في رحمه من حركة دؤوب ترفض الموت بقوة الحياة،ولكن سبق السيف العدل وانقض على هذا الفعل اصحاب القدامة السياسية من المحملين بعوائق وحسابات بل واسئلة خاطئة.وكان ذلك محبطا لفئات تشكلت على الهامش فتراجعت من خوفها من الكوكوي او عدم قدرتها على تحمل النقيق او الصياح والصراع المجرد من الايتيقا..لقد شكلت تحالفات الامس نقمة على الحاضر . وفي ظل عجزها وتراجع انصارها ، وهي حقيقة اسفرت عنها صناديق الاقتراع الاخيرة تمترست هذه القوى فيما يشبه الهويات المتجاوزة والمتعارضة مع توصيفات المواطنة الحقة .
2ـ" حركة 20 فبراير استطاعت تحرير اللغة و الفعل ورفع سقف الخوض في المحرمات" وهذا يجعلنا امام مسؤولية القول إن المثقف مدعو هو الاخر وبشجاعة الى رفع سقف الحوار عن طريق المكاشفة وازالة الدثار عن مرحلة طبعها التوتر . وهنا ساتحدث عن نوعين من الطابوهات اولهما "العراب "الذي ظل متخفيا خلف المثقف يحركه ويوجهه مستفيدا احيانا من اسمه او من سيولته اللغوية او حتى من مهارته الاستعارية في خطابات كل همها هو تجميل القبح واخفاء الذمامة. وكأن المثقف خبير تجميل مزود دائما بالالوان الزاهية.
واماا لطابوالثاني فهوالاعتراف بان بعض المثقفين مارسوا بوعي او بدون وعي الاقصاء والعسف وبالتالي ساهموا في الهذر الثقافي والفكري عن طريق إبعاد الكفاءات او تعطيل مساراتها المهنية والعلمية . مع العلم ان الامر لم يكن دائما يقع في حدود اللياقة بل احيانا بعنف قل نظيره مما ينتج عنه اخطر مما يطفو على السطح.
اننا نستطيع ان ننظر الى المرحلة التي نتمنى ان تصير ماضيا غير قابل للاحياء على انها لا تختلف عن صراعات ومكائد البلاطات المملوكية..مماجعل ا لسياسوي يهيمن على العلمي..فالسياسوي لا يختار من مثقفي المرحلة الا من يخدم خططه التي لا يستند فيها على رؤية علمية متكاملة بل على السرقة والانتقاء الذين يغرقانها في الشوه..
لقد اثر نقيق الضفادع وصياح الديكةعلى كل المجالات لان القوة لا تكون للاسف ، دائما للصواب، بل احيانا للاصوات المرتفعة والمدي الحادة ،ولذلك تربع على عروش القرار اشخاص لا علم لهم وهؤلاء خلقواحولهم ديناميةالولاء مستندين على تقلص هامش الحريات، وانتشار الامية بانواعها المتقدمة وتراجع الأخلاق، والقيم لصالح الرغبة الجامحة في الاغتناء.
انناامام مثقف مطالب اليوم من موقع المسؤولية ان يراجع اسئلته واساليبه وان وان يحرر نفسه اولامع ما تتطلبه حريته من كلفه ثقيلة ثقل التراكماتالمنذرة بالم شديد.
دامي عمر 6 ـ 6 ـ 2011